محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان وأهل البدو إذا صادفوا أمورا ليس لهم بها عهد فإنهم يبدءون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون عن حقيقته وعن أسبابه وغاياته.
والإنسان المفروض وهو الإنسان الفطري الأولي تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط أسباب المعيشة لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الإنسان المدني الحضري الذي أحاطت به هذه الأشغال الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد والحصر التي لا فراغ له عنها ولو لحظة ، ولذلك كان الإنسان المفروض في فراغ من الفكر وخلاء من الذهن ، والحوادث الجمة السماوية والأرضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد استعدادا للانتقال إلى سببها الذي هو أعلى من الأسباب الطبيعية وهو الذي يتنبه له الإنسان الحضري بعد الفراغ عن إحصاء الأسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه الأسباب لو وجد فراغا ، ولذا كان الأسبق إلى ذهن هذا الإنسان المفروض هو الانتقال إلى هذا السبب الأعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به والتنسك والعبادة له.
ومن الشواهد على هذا الذي ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية والبحث عن اللاهوت في آسيا أكثر رواجا وأغلى قدرا منه في أوروبا ، وفي القرى والبلاد الصغيرة أحكم موقعا منه في البلاد العظيمة وعلى هذه النسبة في البلاد العظيمة والسواد الأعظم لما أن المجتمع كلما اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية ، وكثرت وتراكمت الأشغال الإنسانية فلم تدع للإنسان فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها وتتوجه إلى البحث عن مبدئها ومعادها.
وبالجملة إذا راجعنا قصة إبراهيم عليهالسلام المودعة في هذه الآيات وما يناظرها من آيات سورة مريم والأنبياء والصافات وغيرها وجدنا حاله عليهالسلام فيما يحاج به أباه وقومه أشبه شيء بحال الإنسان البسيط المفروض نجده يسأل عن الأصنام ويباحث القوم في شأنها ويتكلم في أمر الكوكب والقمر والشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس وخاصة قومه الوثنيون في الأصنام يقول لأبيه وقومه : « ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ » : ( الأنبياء : ٥٢ ) ويقول لأبيه وقومه : « ما تَعْبُدُونَ. قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ » : ( الشعراء : ٧٤ ).