فهو تعالى يقول لنبيه صلىاللهعليهوآله : قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم : أبعث الله بشرا رسولا : « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً » انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين « وَهُدىً لِلنَّاسِ » أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإلهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء « يجعلونه قراطيس يبدونها » فيما وافق « ويخفون كثيرا » مما لا يوافق أهواءهم.
قال : والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلىاللهعليهوآله وإلى أن قال بعضهم : ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم ـ إن صحت الروايات بذلك ـ فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول : « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال : وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما ، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما ، انتهى كلامه ملخصا.
وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ما أشرنا إليه ، وكذا تخصيصه قوله تعالى : « نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ » باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » كر على ما فر منه.
على أن قوله : إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله : « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها ، وإن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة ، وإن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ » إلخ ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله