كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة ، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر والجموع ، وكذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا.
فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون ، ولا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير والتسيير الإلهي إلا أنها أسباب وعلل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشيء من التأثير.
غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة وأوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب والخضوع لها ، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية ، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي به عن الحق كما قال تعالى : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ » : ( العنكبوت : ٦٤ ).
فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى : « نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » : ( الحشر : ١٩ ).
لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب والعلل والمعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة الدنيوية وشاهد عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولا وآخرا إلى ربه لا غير وأن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأنه دونه.
فقوله تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » إشارة إلى حقيقة الأمر ، وقوله : « وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ » إلخ ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه ، وقوله : « لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » بيان لسبب انقطاعه من الأسباب وسقوطها عن الاستقلال