محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى وإلا فالثالثة وهكذا.
ومن هنا كانت الدولة للحق وإن كانت للباطل جولة ، وكانت القيمة للصدق وإن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ » : الزمر : ٣ وقال : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » : المؤمن : ٢٨. وقال : « إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ » : النحل : ١١٦ وقال : « بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ » : ق : ٥ وذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا ويدفع طرف منه طرفا.
قوله تعالى : « قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعي ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم ، وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بإلحاح وإصرار وجاءوا بقميصه وعليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.
فأضرب عن قولهم : « إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ » إلخ بقوله : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » والتسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا ، وأبهم الأمر ولم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقاما وإنما يكظم ما هجم نفسه كظما.
فقوله : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف وبيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وإنما يستند إلى مكر مكروه وتسويل من أنفسهم لهم ، والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » إلى آخر الآية.
وقوله ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والتقدير : سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمله.
وقد فرع قوله : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت