به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر ، وذلك أنه عليهالسلام فقد أحب الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب وهذا قميصه ملطخا بالدم وهو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به ، ويرى أن لهم صنعا في افتقاده ومكرا في أمره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه أمره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه وهم عصبة أولوا قوة وشدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.
غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام وتلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع ، ولا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال ، وضبط الجمعية الداخلية من التفرق والتلاشي ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره ، وغيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.
ومن هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية وإرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدو المهاجم ، وأما عود نعمة الأمن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز والظفر ، وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر ويوجه أمره إلى غاية صلاح حاله ، والله سبحانه غالب على أمره ، وقد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى : « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » : البقرة : ٤٥ في الجزء الأول من الكتاب.
ولهذا كله لما قال يعقوب عليهالسلام : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ » عقبه بقوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات