المستقبلة : « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » : الآية ٨٣ من السورة.
فقوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » ـ وهو من أعجب الكلام ـ بيان لتوكله على ربه يقول : إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا وإن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله ولا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر وأوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه وصار أكلة لذئب.
فظهر أن قوله : « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » دعاء في موقف التوكل ومعناه : اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بني هؤلاء ، والكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر ومعناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه عليهالسلام كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ » ، ولتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل : سأصبر ولم يقل والله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وإن الأمر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده وأسفه وحزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده إلا لله وفي الله.
قوله تعالى : « وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ » قال الراغب : الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره. انتهى ، وقال : دلوت الدلو إذا أرسلتها ، وأدليتها إذا أخرجتها. انتهى ، وقيل بالعكس ، وقال : الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.
وقوله : « قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ » إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم ولذا قال : « قالَ يا بُشْرى » ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.
وقوله : « وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ » مفاده ذم عملهم والإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها ، ويمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد