فإن قلت فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى : « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ » : الأنعام : ٢٤ وقوله تعالى : « يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ » : المجادلة ـ ١٨.
قلت : هذا من ظهور الملكات كما أن الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب ، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية ، وربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة والباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم والنطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.
وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا وعاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية وإلا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة ، وصحيفته منشورة ، والأشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة ، والأسباب ومنها الكذب ساقطة هالكة ، وقد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة ، وينجو بذلك.
وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم ، قال تعالى : « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ » : القلم : ٤٣ فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم ، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه.
فإن قلت : لو كان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وما في معناها من الآيات؟
وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.
قلت : لا ريب أن الإنسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله