المرسلات : ٣٥.
وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم « يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ » : الطارق ـ ٩ ويقول : « إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » : البقرة : ٢٨٤ فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال والأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.
فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة ، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا ، والتكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا ، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.
والتكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة وهو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان ، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية ويعاينها كما يهتدي ـ مثلا البصر إلى الأضواء والألوان واللمس إلى الحرارة والبرودة والخشونة ـ والملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاما ، وكذا لو كان النوع الإنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة.
كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو وراء الحس ، والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع عليه ، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شيء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك.
وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله : « يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ » ، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى : « لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » إلى أن قال : « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ » : الرحمن : ٤١.