وإرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها وصار يتخبط في أعماله.
ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها ، وفي صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال : قتل القوم تقتيلا وموتهم الجدب تمويتا.
وقوله : « وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ » تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف وهذا كقوله تعالى : « ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ » : النور : ١٦ وهو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه وتبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه عليهالسلام بقولهن « ما هذا بَشَراً » إلخ ، بدأن بتنزيهه تعالى ، ثم أخذن ينزهنه.
وقوله : « ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » نفي أن يكون يوسف عليهالسلام بشرا وإثبات أنه ملك كريم ، وهذا بناء على ما يعتقده المليون ومنهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كل خير وسعادة في العالم منهم يترشح كل حياة وعلم وحسن وبهاء وسرور وسائر ما يتمنى ويؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري ومعنوي ، وإذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر ، ويتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية.
ولعل هذا هو السبب في قولهن : « إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه وجمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه واعتدال صورته بل سمينة ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته وسيرته معا ، وجمال خلقه وخلقه وظاهره وباطنه جميعا. والله أعلم.
وتقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ » يدل على أنهن لم يفهمن بهذا الكلام إعذار لامرأة العزيز في حبها له وتيمها وغرامها به ، وإنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه وإظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن وتوله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن ، ولم تقل امرأة العزيز : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ » إلا بعد ما فضحتهن