أيديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له أصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين إلا وهو همهن وفيه هواهن يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له أنفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.
وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه وإحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به.
وثالثا : أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف عليهالسلام كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه ، وليست الأمر الدفعي المفروغ عنه وإلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى ، ولذا عبر عنه بقوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي » ولم يقل : وإن لم تصرف عني وإن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.
ولذلك أيضا قال تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ » إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد.
ورابعا : أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال عليهالسلام : « وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » ولم يقل : وأكن من الظالمين ، كما قال لامرأة العزيز : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » أو أكن من الخائنين كما قال للملك : « وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ » وقد فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال : إنه ظلم والظالم لا يفلح ، وإنه خيانة والله لا يهدي كيد الخائن ، وخاطب ربه بحقيقة الأمر وهو أن الصبوة إليهن من الجهل.
وستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين (١) في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ »
__________________
(١) أي الأمر الثالث والرابع.