وقد ظهر من الآية بمعونة السياق :
أولا : أن قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ » إلخ ، ليس دعاء من يوسف عليهالسلام على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن والرجوع إليه ، ومعنى « أَحَبُّ إِلَيَ » أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت ، وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني والنفس الأمارة.
وإن قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ » إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ » إلخ ، من معنى الدعاء. ويؤيده تعقيبه بقوله : « فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ » ، وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.
ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن : « ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ » ولو كان دعاء بالسجن واستجابة الله سبحانه وقدر له السجن لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.
وثانيا : أن النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه ، وأما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.
والذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك : « ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ـ إلى أن قال ـ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ » : الآيات : ٥٠ ـ ٥٢ من السورة.
أنهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد أشركهن في القصة ثم قال : « لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ » ولم يقل : لم أخن بالغيب ولا قال : لم أخنه وغيره فتدبر فيه.
ومع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن