وهو السجن والكون من الصاغرين.
وأما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها ، وكلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به. وقد حققت أنها تملك قلب زوجها وتقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده ، وتقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت؟.
قوله تعالى : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » قال الراغب في المفردات ، : صبا فلان يصبو صبوا وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان ، قال تعالى : « أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » انتهى وفي المجمع ، : الصبوة لطافة الهوى. انتهى.
تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن ويوسف عليهالسلام واقف أمامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف عليهالسلام لم يلتفت إليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له ولا شغل له إلا به و « قالَ : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » إلخ.
وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وأن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن ، وإنما هو بيان حال لربه وأنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية والبعد منه ، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به وراودته عن نفسه : « مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » ففي الكلامين معا تمنع وتعزز بالله ، وإنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز وبالآخر ربه القوي العزيز وليس شيء من الكلامين دعاء البتة.
وفي قوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ » إلخ ، نوع توطئة لقوله « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ » إلخ ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.
فمعنى الآية : رب إني لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره وأسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لا تصرف عني كيدهن أنتزع وأمل إليهن وأكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه وتصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكة الصبوة والهوى.