من لغو الكلام جهلا ولا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك ، وقد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك ورفع عن ساحته كل غميضة فيما قال : ( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة : ١١٤.
وأما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد ، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه وقد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك ، ومعنى تفرع قوله : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) إلخ على ما تقدمه.
قوله تعالى : ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) إلى آخر الآية ( مِنْ ذُرِّيَّتِي ) في تأويل مفعول ( أَسْكَنْتُ ) أو ساد مسده و ( مِنْ ) فيه للتبعيض ) ومراده عليهالسلام ببعض ذريته ابنه إسماعيل ومن سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله : بعد ( رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ).
والمراد بغير ذي زرع غير المزروع وهو آكد وأبلغ لأنه يدل ـ كما قيل ـ على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع وهذا كقوله : ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ).
ونسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى وهو عبادته ، وكونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا والظرف أعني قوله ( عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) متعلق بقوله ( أَسْكَنْتُ ).
وهذه الجملة من دعائه عليهالسلام أعني قوله : ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ـ إلى قوله ـ الْمُحَرَّمِ ) من الشاهد على ما قدمناه من أنه عليهالسلام إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا قوله : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ).
وبذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال : كيف سماه بيتا وقال أسكنت من ذريتي عنده ولم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل وأمه إلى أرض مكة وكانت أرضا قفراء لا أنيس بها ولا نبت.