والآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان والضياء والذكر التوراة آتاها الله موسى وأخاه هارون شريكه في النبوة.
والفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق ، وذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر وتسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق والباطل في الاعتقاد والعمل ، والآية نظيرة قوله : « وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » البقرة : ٥٣ وتسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم والمواعظ والعبر.
ولعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء وذكر ، وبوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء وذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم ولذا جيء بالضياء والذكر منكرين ليتقيدا بقوله : « لِلْمُتَّقِينَ » بخلاف الفرقان وقد سميت التوراة نورا وذكرا في قوله تعالى : « فِيها هُدىً وَنُورٌ » المائدة : ٤٤ وقوله : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ » الآية : ٧ من السورة.
قوله تعالى : « وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ » الإشارة بهذا إلى القرآن وإنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به والكافر في المجتمع البشري وتتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته.
يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد والصلاح في المجتمع العام البشري والرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه وإن جهل الجاهلون لفظه ، وأنكر الجاحدون حقه وكفروا بعظيم نعمته ، وأعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره ، ( وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ).
قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ » انعطاف إلى ما قبل موسى وهارون ونزول التوراة كما يفيده قوله : « مِنْ قَبْلُ » والمراد أن إيتاء التوراة لموسى وهارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده.
والرشد خلاف الغي وهو إصابة الواقع ، وهو في إبراهيم عليهالسلام اهتداؤه