كانقطاع الشيخ أبي محمد ، ومجاورا له في رباطه ، مكبا على نسخ العلم ، عالما بالحديث والقراءات له كتب كثيرة بخطه أوقفها كلها ، وفرقها قبل موته بقليل رحمهالله ، كان إذا رأى منكرا غيّره بيده ولسانه ، واتفق أن بعض المشايخ الكبار مرتّب في قراءة ختمة قبل صلاة الجمعة يجلس لقراءتها على كرسي ، ويرفع صوته بالقراءة.
فقال له الشيخ عبد الواحد : لا تجلس في هذا الوقت ، ولا ترفع صوتك بالقراءة فيتأذى الناس برفع صوتك.
فقال : هذه وظيفة مشروطة بهذه الصفة ، فلا بد أن أفعل الشرط ، وإلّا آكل حراما.
فقال له : قد نهيتك ، فإن لم تفعل وجلست بعد هذا أخذت بلحيتك هذه ، وأنزلتك من على كرسيك ، فإن شئت فافعل ، وإن شئت فدع ، فترك ذلك رحمهالله.
فلما ذهب أولئك الشيوخ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، عادت القراءة كما كانت ، وهي الختمة التي تقرأ اليوم في الروضة قبل الصّلاة.
وكان مما يعد من كرامات الشيخ أبي محمد البسكري ، أنه لا يأتيه مظلوم يشتكي عليه ظالمه إلا وشفع له ، فإن شفع فيه ، وإلا عجلت عقوبة الظالم في وقته.
أخبرني من أثق به : أن الشيخ أبا العلا (١) إدريس ـ رحمهالله ـ تكلّم بكلام وصل إلى الأمير جماز ، فغضب عليه وأمر بإخراجه من المدينة ، وذلك أنّ شيخ الخدام في وقتهم كان يحسن إليهم وإلى سائر المجاورين ، ويفرّق عليهم من التمر كل سنة قدر كفايتهم وعيالهم ، وكان شيخ الخدام يومئذ يجري في الأوقاف مجرى أهل المدينة في مغارساتهم ومعاملاتهم على جاري العادة في المدينة ، وأحكام قضاتهم ، ولهم عادة في المغارسة غير جائزة بإجماع من الأمة ، والأملاك لا تعمر إلا بها ، ولا يرغب في خدمتها إلا من يأخذها بذلك.
__________________
(١) ترجمه في : «التحفة اللطيفة» ١ / ١٦٥ (٣٧٥).