بحيث يجد المؤرخ نفسه أمام غابة كثيفة مظلمة لا يجرؤ على اقتحامها ، وإذا أو غل فيها قليلا فإنه قد لا يستطيع الخروج منها ، فإذ خرج فإنه لن يخرج بشيء ذى قيمة. ولا تقتصر هذه الظاهرة التاريخية على تاريخ بلد دون آخر ، أو على حلقة معينة من عصور الانحلال دون أخرى ، وإنما هي ظاهرة عامة مشتركة ، لأنها ترتبط أولا وأخيرا بطبيعة البشر وغرائزه ، والظروف التي تحيط به ويتعرض لها.
وهكذا نجد مؤلف هذا الكتاب ، بقدر ما يطنب في حلقات الازدهار ، وعهود المبرزين من الأئمة وحكام عمان ، بقدر ما يوجز أحيانا في عصور التفكك والانحلال. وربما أضرب ـ مجبرا لا مختارا ـ عن علاج فترات طويلة من تاريخ البلاد ، قد تمتد بضعة قرون ، معتذرا بقوله «... فهذه مائتا سنة وبضع ، لم أجد فيهن تاريخ أحد من الأئمة والله أعلم. إنها كانت سنين فترة عن عقد الإمامة ، أو غاب عني معرفة أسمائهم».
ومع هذا ، ومع تشابه المعلومات التي جاءت في هذا الكتاب مع ما جاء في غيره من الكتب التي وقفنا عليها في تاريخ عمان ، فإننا نكرر ما سبق أن أشرنا إليه من أن الخطوط العريضة في التاريخ ـ تاريخ أية أمة أو أية دولة أو أي فرد ـ ثابتة لا تتغير ، بحيث لا يكون الخلاف بين مصدر وآخر إلا في التفصيلات والفروع ، والتعليقات والتحليلات. فالعظيم عظيم ، والحقير حقير. والصالح صالح ، والطالح طالح والحق أبلج ، والباطل لجلج. وهذه حقائق ثابتة في التاريخ لا تتغير من مصدر لآخر. ومع ذلك فطننا نلمس في هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعض الإشارات والتفصيلات واللمسات التي لم نجدها في غيره من الكتب التي وقفنا عليها في تاريخ عمان. ومن هنا تبدو أهمية إحياء التراث ونشره ؛ لأنه يمكن بالمقارنة بين ما جاء في مختلف المؤلفات التي دونها السابقون أن نخرج بصورة سليمة البنيان ، متكاملة التفاصيل ، دقيقة الملامح ، لحلقة معينة من حلقات التاريخ.