على أن هناك ظاهرة واضحة في كتابة التاريخ ، تترتب على اعتماد اللاحقين من المؤرخين على السابقين ، ونقلهم عنهم ، هي ما نلاحظه من تشابه ـ قد يصل أحيانا إلى درجة التطابق ـ في مختلف الكتب التي تعالج حلقة واحدة من حلقات تاريخ هذا البلد أو ذلك العصر.
ولكن علينا هنا أن نضع أمامنا حقيقتين : الأولى هي أن التاريخ يعبر عن الماضي ، يعبر عن أشياء حدثت فعلا ، يعبر عن سياسات وأوضاع وعلاقات وحروب ووقائع وأحداث جرت ، ولا مجال كبير للخلاف حولها ... يصوّر أناسا ـ حكاما ومحكومين ـ قاموا بدورهم على مسرح الحياة البشرية ، منهم العظيم ومنهم الوضيع ، فيهم الأمين القوي صاحب الهمم ، والخائف الضعيف المتقاعس ... ولا بد أن تتشابه صور التاريخ في كافة كتبه وكتاباته ، طالما يلتزم المؤلف بالحقيقة كاملة ، ويتحرى الأحداث غير ناقصة ، وينأى عن الأهواء وتعتمد المسخ وافتعال التشويه.
أما الحقيقة الثانية فهي أننا ـ رغم ما سبق ـ نلاحظ فوارق بين الكتابات التاريخية عند ما تتعرض لسرد رواية واحدة ، حتى لو كان مؤلفو هذه الكتب استقوا روايتهم عن مصدر واحد. ذلك أن المؤرخين اللاحقين عند ما يأخذون عن السابقين فإنهم أحيانا لا ينقلون نقلا حرفيا ، وإنما يعبر كل واحد منهم عن شخصيته وعقليته واتجاهاته الفكرية وأحاسيسه وكثيرا ما نقرأ رواية في كتابين من كتب اللاحقين أخذاها عن مصدر واحد سابق عليهما ، ولكننا نجد بعض الاختلافات في العرض والتفاصيل ، أحدهما أطنب والآخر تعمد الإيجاز ، أحدهما حرص على أن يذكر كافة الأسماء المرتبطة بالحادث من قريب أو بعيد ، والآخر اكتفى بذكر اسم أو إسمين. وربما علّق بعضهم على ما حدث برأي جديد يعبر عن وجهة نظره ، أو استقاه من مصدر آخر لم يطلع عليه غيره ، مما يجعل لكل كتاب طابعه ومزاياه.