كان مفكرا بعيد النظر ، ومثقفا مرموقا يتقن العربية والتركية والفرنسية ، وقد أقام في باريس لسنوات عديدة ، وفي الفترة التي كان الشدياق يتنقل فيها بين لندن وباريس ، ثم انكبّ خير الدين على دراسة التجربة الأوربيّة ، ووضع عنها كتابه الهام :
«قوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» ، وهو أحد المراجع الرئيسة لدارسي الفكر العربي في عصر النهضة.
لذا فإنه من غير المتوقّع أن تلقى رحلة الشدياق في تونس من الفضول المعرفة ما يجري في الغرب ما لقيته رحلة الطهطاوي في مصر من الحفاوة والانبهار. وعلى كل حال ، فإن إقامة الشدياق في تونس لم تطل ؛ بسبب اضطراره لقبول دعوة السلطان عبد المجيد إلى الآستانة بعد الاستئذان من الباي ، فربما وجد في حاضرة الدولة العليّة ما لم يجده في تونس. كما أن الآستانة كانت إحدى العواصم الكبرى في العالم التي تتطلّع إليها الأعين ، وتهفو نحوها أفئدة الحالمين بمكانة لائقة من أمثال الشدياق ، الذي تحقق له ما أراد ، فلقّبته صحف الغرب ب «السياسي الشهير ، والإخباري الطائر الصيت ، وقد خاطبه الملوك والأمراء ، والعظماء في سائر أقطار العالم ، ووجدوا بين أوراقه بعد وفاته مئات من الكتب واردة عليه من عظماء العالم وملوكهم (٧)».
وفي الختام فإنه لا بدّ القول بأنني لّما كلّفت بتحرير هذا الكتاب ، وإخراجه إلى النور ، اعتمدت الطبعة الأولى الصادرة بتونس سنة ١٢٨٣ ه والتي تفضّل بتزويدي بها الأخ الأستاذ نوري الجرّاح ، وقد بذلت الكثير من العناء في قراءتها ، وضبطها ، وتصحيحها ، وسدّ ما اعتاها من نقص ، ثم شرح ما تخلّله من الغريب الذي شغف به الشدياق شغفا عظيما! ، ـ وسوف يلحظ القارئ ذلك في هوامش الكتاب ـ ولكنّني بعد الانتهاء من العمل فيها تمكّنت من الحصول على الطبعة الثانية التي أصدرها المؤلف من الآستانة من مطبعة الجوائب سنة ١٢٩٩ ه ، فألفيتها مختلفة عن الأولى ، ومن الصعب إدخال تعديلات المؤلّف عليها ، ممّا اضطرّني إلى ترك الأولى ، واعتماد الثانية التي أضاف إليها «بعض أقوال سديدة ، وأخبار مفيدة ، وأشياء أخرى
__________________
(٧) مشاهير الشرق لجرجي زيدان ج ٢ ص ١٠٨. منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بلا تاريخ.
(٨) يتفخلون : يرتدون أحسن ثيابهم. (م).