وعدم الشكل ، وإن الشيء إنّما يرزن إذا كان في مستقره ، حتّى عرفوا الظلم أنّه وضع الشيء في غير مقرّه ، ومعلوم أنّ محلّ العرب مباين لمحل العجم ، فكان أحد الفريقين إذا جاوز محلّه فقد ظلم ، الى غير ذلك من تناقض العبارات والاعتبارات ، كما جرت بذلك عادة البلغاء في المحاورات ، إذ كلّ حكم وقضية من القضايا الجارية أطالوا فيها المقال ، وجالوا فيها من حيث لا مجال ، كاعتزال الناس والانفراد عنهم ، والمخالطة لهم والأخذ منهم ، فبعضهم اثر الأول ، وودّ أن يقضي عمره على قنة جبل ، وبعضهم شبّه الزحام بمنهل عذب لذي الأوام(٤) ، وأمثال ذلك لا تحصى ، ولا تعدّ ولا تستقصى ، فكان الركون إلى ما قالوا ، والمعوّل على ما فيه جالوا وأطالوا ، غير هاد وحده سبيلا قويما ، ولا شاف كليما إلا إذا امتحن الناقد اللبيب بنفسه أيّ الفريقين أصدق قيلا ، وأهدى سبيلا ، وأطلع على ماذا حملهم على الذم والقدح ، والثناء والمدح ، وماز المعلم من المجهل (٥) ، والحالي (٦) من المعطّل ، فهو حينئذ خبير وأيّ خبير ، غير مفتقر إلى ناصح منهم ومشير ، والحاصل أنّ لكل امرىء شأنا يعنيه ومطلبا هو مقتفيه ، وأن ما قضى الله يكون ، سواء ذمّ الذامّون أو مدح المادحون ، هذا وقد كنت في عنفوان شبابي ، وجدّة جلبابي ، وإزهار سنّي ، وازدهار ذهني ، لهجا بالسفر والاغتراب ، والترحّل عن الوطن والأصحاب إلى بلد ينضر فيه غرسي ، وتطيب فيه نفسي ، واقتبس فيه من مصابيح العلم قبسا ، وألقى إذ الدهر لي موحش خليلا يصادقني مؤنسا ، حتى أدّتني أعمال حابطة (٧) ، إلى جزيرة مالطة ، فألفيتها لا كما أمّلت ، وكابدت منها ما لا يفي بما عنه ترحّلت ، فعنّ لي أن أظهر ما بطن منها ، وأكشف مخبّأها لمن رغب فيها أو عنها ، فألّفت فيها كتابا سمّيته «الواسطة إلى معرفة مالطة» ثم لمّا رأيت أن هذا الشرح لا يروي غليلا ، ولا يشفي عليلا لكونه مقصورا على وصف الجزيرة ، وهي من الصغر بحيث لا تمكّن الواصف من أن يطيل فيها من
__________________
(٤) الأوام : العطش. (م).
(٥) المعلم : ما كان فيه علامة أو إشارة ، والمجهل ضدّه. (م).
(٦) الحالي : المزين بالحلي ، وضده المعطل. (م).
(٧) حبط العمل بطل. (م).