التأريف (١٠) والتعريف ، وأنّى لمثلي أن يدرك جميع ما عند أولئك الناس من الاختراع ، والإحداث والإبداع ، إلا أنّ رغبتي في حب إخواني على الاقتداء بتلك المفاخر ، هي التي سهّلت عليّ هذا الخطب وأطالت باعي القاصر ، فأمسكت القلم من بعد إلقائه مرارا ، وتوكّلت على الباري المعين أن يكشف لذهني ما عنه توارى ، ويدني إلى فكري ما شطّ عنه مزارا ، وحرّرت هذه الرحلة وسمّيتها «كشف المخبا عن فنون أوربا» وذلك لأني لم أقتصر فيها على شرح ما عند الإنكليز وحدهم من الفنون ، بل استطردت إلى وصف غيرهم أيضا والحديث ذو شجون ، وليكن معلوما عند القارئ ، والسامع والداري ، أنّي في كل ما وصفت به الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من أهل أوربا ، لم يمل بي هوى ولا غرض بغضا أو حبّا ، إذ ليس لي حذل (١١) مع أحد منهم ولا ضلع ، ولا انحراف ولا ميل ولا ضرّ ولا نفع ، وإنّما رويت عنهم ما رويت ، وحكيت ما حكيت ، بحسب ما ظهر لي أنّه الصواب ، فلا ينبغي أن يحمل قولي على ضغن أو إغضاب ، وأعوذ بالله من أن أبخس الناس أشياءهم ، فأتعمد القول فيما شأنهم وساءهم ، إلا أنّه لا ينكر أنّ الإنسان محلّ النقص والمعيب ، وأنّه قلّ من ينظر إلى نفسه بعين المصيب ، وكذا كنت أقول للإنكليز ، فلم يكن أحد منهم ينكر قولي أو ينسبه إلى التعجيز ، ثم إنّي بعد الفراغ من تحرير الرحلة المشار إليها عرضت عوارض كثيرة ، وأحوال خطيرة ، كحرب أميركا وبولاند مثلا ، وكزيادة في عدد سكان الممالك أو في أعمالهم ممّا استعظمه الناس وصار لهم شغلا ، من جملة ذلك ما جرى في الممالك الإسلامية من التحسين والتنظيم ، والترتيب والتتميم ، إلا أني رايت إيداعها في الرحلة نصبا مستأنفا ، وشغلا لا ينتهي ولا يستوفى ، فصرفت عنه صفحا ، وصدفت كشحا ، إذ حوادث الدهر أكثر من أن يحصرها ذكر ، أو يحيط بها زبر (١٢).
__________________
(١٠) التأريف : التحديد. (م).
(١١) الحذل : الميل وكذلك الضلع. (م).
(١٢) الزبر : الكلام ، والكتابة. (م).