الوصول إلى باريس
ثم سافرنا منها فبلغنا باريس ليلا فدهشت لما رأيت ، فإني وجدت جميع الحوانيت مفتوحة في الساعة التي لا يفتح فيها شيئا في لندرة غير حانات المزر. وحين مررنا بالبلفار رأينا من الأنوار في الديار من فوق ، وفي محال القهوة من تحتها ، وفي فوانيس الطرق من بين الأشجار ، وفي فوانيس العواجل الواقفة عن اليمين والشمال ، ما خيلّ لي أني في جنات النعيم ، فقلت في نفسي بخ بخ ، إن هذه مدينة بهجة وأنوار ، تتفتح فيها أكمام المعاني في رياض الأفكار ، وتنجلي بها عرائس القصائد في أخدار الأشعار ، فلأجعلنّ دأبي النظم فيها الليل والنهار ، وكلما أرتج (٢٦٣) عليّ شيء جئت إلى البلفار. ثم لبثنا أربعة أيام في مبيت ، إلى أن تيّسر لنا استيجار محل في دار على حدته ، وكان الضباب في خلالها كثيفا ، والبرد شديدا ، أمّا البرد فلا ينقص عن برد لندرة نقيرا ، بل هو أشد وأنكى ، وأما الضباب فكان أبيض بخلاف ضباب لندرة فإنه يقع أسحم ، فطفقت أشكو من الانتقال من ضباب إلى ضباب ، فقال لي أحد أصحابي : «إن هذا الضباب إنما قدم إلينا معك من لندرة ، فإن باريس ليس مضبّة ، ووقوعه فيها نادر جدا». لكني وجدت قوله بعد ذلك غير الحق ، فإنه وقع أيضا في السنة الثانية وأنا مقيم فيها من دون أن يعلق بأذيالي من قطر آخر ، إلا أنه لا يدوم طويلا كما يدوم ضباب لندرة.
وقد حان الآن أن أشرع في وصف باريس وأهلها ، ولكن لما كان العالم الأديب الشيخ رفاعة بك الطّهطاوي قد ألّف كتابه النفيس المسمى ب» تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وسبقني إلى هذا المعنى ، كان لا بد لي هنا من أن أستأذنه في ذكر ما أضرب عنه بالكليّة ، أو أشار إليه إشارة فقط مما استغربته منه ، ثم أجعل ذلك مقياسا للقارئ يقيس عليه باريس ولندرة ، ولكن قبل الكلام على باريس خصوصا ينبغي أن أبتدئ بالكلام على فرنسا عموما ، فإنها حريّة بذلك ، وخصوصا أني قد أجملت القول في أول هذا الكتاب على إنكلترة. فأقول :
__________________
(٢٦٣) الصواب أنها ليست مثقّلة ، أي هي : أرتج (م)