ليزورني الزيارة الأولى مرحبا بنفسه بقدومي إلى بلاده. وكان هذا تكريما غير متوقع ، وبرهانا عظيما على نزعته الودية الكريمة ، وفي الواقع إنني ما كنت أتأمل منه أن يرد على زيارتي ، ومن أجل هذا كان سبقه في المجيء من الأمور المفاجئة.
وعلى ذلك قمت بخير الاستعدادات التي استطعت القيام بها في موقفي هذا لاستقبال محمود باشا ، وبعد العصر بقليل أعلن عن قدومه ، وكان منظر موكبه بدائيّا مفرحا ، لقد كان وحده ممتطيا جوادا ، ولما كان رجلا صغير الجسم جدّا فقد كاد يخفى عن الأنظار بجمهور من الكرد الطويلي القامة وقد ارتدوا ملابس ألوانها ألوان قوس القزح كلها ، وردي وأصفر وقرمزي ، وكانت هذه الألوان هي الغالبة في أهداب (شراشيب) أغطية رؤوسهم ؛ وكان الموكب صامتا ، ووقع أقدامهم يسمع من بعيد. وعندما أدى حرسي التحية ردها الباشا بوضع يده فوق صدره بوقار عظيم. وقد أرسلت عرفائي للقياه ، وخرجت شخصيّا بعيدا عن باب الخيمة لاستقباله ، وما إن رآني حتى ترجّل بين هتاف عرفائه فصافحني بكلتا يديه ودخلنا الخيمة وجلسنا سوية على بساط أحضرته خصيصا لهذه المناسبة. وقد تمكنت بصعوبة من إقناعه على أن يتخذ جلسة مريحة ، ويقعد القرفصاء ، إذ كان مصرا على أن يتجشم صعوبة الجلوس ليظهر الاحترام الزائد ، بالركوع مستندا على كعبي قدميه. وقد رحب بي وبزيارتي لكردستان مرة بعد أخرى مؤكدا لي بأن بلاده بلادي ، ومكررا كلمات غيرها من كلمات المجاملات الشرقية. وقد تبادلنا طبعا ، الكثير من العبارات الرقيقة ، منها اعتذاره عن حالة بلاده ، وامتداحي لها. وعلى كل فقد كنت أعبر عن شعوري مخلصا ، إذ إنني في الحقيقة كنت مفتونا بالتلال الخضراء ومبتهجا لابتعادي عن بغداد. وبعد ذلك سلمته رسالة باشا بغداد ، ولما كانت رسالة رقيقة جدّا فقد عنيت العناية كلها بتسليمها على مشهد من حاشيته أو ملازميه ، وقد ظهر لي أنه أدرك اهتمامي. وقد