أمسوس وغيرها من المدائن ، حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم ، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجرى ، بل كان ينبطح ويتفرق فى الأرض ، فوجّه الملك نقراوش المهندسين إلى النوبة فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التى بنوها. ثم لما خربت مصر بالطوفان ، وكانت أيام البودشير بن قفط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام عدل جانبى النيل تعديلا ثانيا بعد ما أتلفه الطوفان (١).
كما أن نهر النيل أخذ قسطا موفورا واهتماما ملحوظا من القصص الدينى ، من جانب المؤرخين والجغرافيين ، خاصة فى العصر المملوكى وذلك سواء أكان ذلك القصص مما ورد فى القرآن الكريم ، أو فى الأحاديث النبوية الشريفة ، أو مما أثر عن الصحابة والسلف الصالح ، أو من أقوال المفسرين للقرآن الكريم ، وعلماء اللغة. بل إن الكثير من مؤلفات ذلك العصر احتوت على الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتى ترجع النيل إلى أنهار الجنة ؛ وتصبغه بصبغة القدسية ، وتضفى عليه صفة الإيمان (٢) ؛ فهو سيد الأنهار ، سخر الله له كل الأنهار والعيون لتمده بمائها وقت زيادته ، فإذا وفّى زيادته وزرعت الأراضى ، أمر الله النيل أن يعود كما كان (٣). ويبدو أن هذا الاعتقاد الذى سيطر على أفكار الجغرافيين والمؤرخين المسلمين نتج من حقيقة أن الزيادة تحدث فى مياه نهر النيل صيفا ، فى حين أن مياه معظم الأنهار المعروفة تنقص فى ذلك الفصل من السنة.
وكان بلوغ الزيادة فى نهر النيل عند تمام الستة عشر ذراعا ، يعتبر علامة الوفاء ـ أى وفاء النيل ، وعندئذ يستحق تحصيل الخراج الذى للسلطان كاملا (٤). وتسمى زيادة الستة عشر ذراعا هذه «بماء السلطان». ويذكر المسعودى : أن أتم الزيادات نفعا للبلاد هى زيادة السبعة عشر ذراعا ، وذلك لأنها تروى جميع البلاد ، أما إذا زادت عن ذلك ووصلت إلى ثمانية عشر ذراعا فإن المياه تغطى ربع أراضى البلاد حتى يفوت أوان الزرع ، وهو ما
__________________
(١) المقريزى : الخطط ، ج ١ ، ص ٥٢ ، ط. بولاق.
(٢) المقريزى : الخطط ، ج ١ ، ص ٤٩ ؛ السيوطى : حسن المحاضرة ، ج ٢ ، ص ٣٠٢ ـ ٣٠٤ ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط. دار الفكر العربى ، القاهرة ١٩٩٨ م ؛ السيوطى : الكلام على النيل ، ص ١٣ ـ ١٩ ؛ كوكب الروضة ، ص ٤٩ ـ ٥١ ؛ الحجازى : نيل الرائد فى النيل الزائد ، ص ٨ ـ ٩ ، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم ٣٨٠ جغرافيا.
(٣) ابن ظهيرة : الفضائل الباهرة فى محاسن مصر والقاهرة ، ص ١٦٩ ، تحقيق مصطفى السقا ، ط. دارالكتب ، القاهرة ١٩٦٩ م ؛ المقريزى : الخطط ، ج ١ ، ص ٤٩ ـ ٥٠ ، ص ٦٠.
(٤) المسعودى : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ٣٤٣.