فمضى خالد فنزل معسكره ، وبعث إليهم أن يبعثوا له رجلا من عقلائهم وذوى أنسابهم ، يسأله عن أمرهم (١). فبعثوا إليه «عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن [حيان بن بقيلة](٢) الغسانى ، وهو / الذى [بنى](٣) القصر الأبيض (٤). فأتى خالد ، وله يومئذ [٥٢] ثلاث مائة وخمسون سنة ، فأقبل يمشى ، فنظر إليه خالد مقبلا فقال : من أين أقصى أثرك أيها الشيخ (٥). قال : كمن صلب أبى. قال : فمن (٦) أين جئت؟ قال : من بطن أمى. قال : فعلام (٧) أنت؟ ويحك. قال : على الأرض. قال : فيم أنت؟ لا كنت. قال : فى ثيابى. قال أتعقل؟ لا عقلت. قال : أى والله ، وأقيدها. ابن كم أنت؟ قال : ابن رجل واحد. قال : اللهم أخرهم عن أهل بلده ، فما يزيدوننا إلى عمى. أسأله عن الشىء فيجيب عن غيره. قال : لا والله لا أجيبك إلا بما سألتنى. قال : أعرب أنت أم نبط؟ قال : عرب استنبطنا ، ونبط استعربنا. قال : أحرب أنت أم سلم؟ قال : بل سلم. قال : فما بال هذه الحصون؟ قال : بنيناها للسفيه تحبسه حتى يأتى الحكيم فينهاه. قال : كم أنت / لك؟ قال : خمسون [وثلاث](٨) مائة سنة. [٥٣]
قال : فما أدركت؟ قال : أدركت سفن البحر ترقى إلينا فى هذه النجف بمتاع السند والهند ، وأمواج البحر تضرب بها تحت قدميك ، وانظر كم بينها (٩) اليوم وبين البحر. ورأيت المرأة تأخذ مكتلها (١٠) فتضعه على رأسها لا نزود إلا رغيفا واحدا ، فلا تزال فى قرى عامرة متواترة ، وعمائر متصلة ، وأشجار مثمرة ، وأنهار جارية ، وغدران غدقة ، حتى ترد الشام. وتراها اليوم قد أصبحت خرابا يبابا ، وذلك دأب الله فى البلاد والعباد.
فوجم خالد ومن حضره لما سمعوا منه وعرفوه. وكان مشتهرا فى العرب بطول العمر ، وكبر السن ، وصحة العقل. قال : ومعه سمّ ساعة ، يقلبه فى يده ، فقال له خالد :
__________________
(١) «أمره» فى نسخة ح.
(٢) «حيانة بن فضيلة» فى نسختى المخطوطة. والمثبت من فتوح البلدان ، ص ٣٣٩ ، تحقيق عبد الله أنيس الطباع ، عمر أنيس الطباع ، بيروت ١٩٨٧.
(٣) «بنا» فى نسختى المخطوطة.
(٤) القصر الأبيض من قصور الحيرة ، ذكر فى الفتوح أنه كان بالرّقة. ويذكر ياقوت أنه يظن أن القصر من أبنية الرشيد.
معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ١٠٦.
(٥) «الرجل» فى نسخة ح.
(٦) «من» فى نسخة ح.
(٧) ورد هذا النص فى فتوح البلدان بتصرف. ص ٣٤٠.
(٨) «ثلاثون» فى نسخة ز وهو خطأ حيث وردت قبل ذلك «ثلاث». والمثبت بين الحاصرتين من نسخة ح.
(٩) «بينهما» فى نسخة ح.
(١٠) المكتل : زنبيل يعمل من الخوص ، وجمعها مكاتل. انظر : المنجد ، مادة المكتل.