الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم ، وعقبه بقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها).
وجمل : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) إلى قول : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) معترضات بين جملة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ) وجملة (وَعَلَى الْوارِثِ) فموقع جملة (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لقوله (بِالْمَعْرُوفِ) ، وموقع جملة (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) إلى آخرها موقع التعليل أيضا ، وهو اعتراض يفيد أصولا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع.
والتكليف تفعيل بمعنى جعله ذا كلفة ، والكلفة : المشقة ، والتكلف : التعرض لما فيه مشقة ، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة ، وهو اصطلاح شرعي جديد.
والوسع ، بتثليث الواو : الطاقة ، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء ، وهو ضد ضاق عنه ، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول ، وأصله استعارة ؛ لأن الزمخشري في «الأساس» ذكر هذا المعنى في المجاز ، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي ، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلّا عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه ، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة. فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح ، وإن كان بضمها فهو مصدر ـ كالصلح والبرء ـ صار بمعنى المفعول ، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة. وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل ، فيفيد حذفه عموم الفاعلين ، كما يفيد وقوع نفس ، وهو نكرة في سياق النفس ، عموم المفعول الأول لفعل تكلف : وهو الأنفس المكلفة ، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله : (إِلَّا وُسْعَها) عموم المفعول الثاني لفعل تكلف ، وهو الأحكام المكلف بها ، أي لا يكلف أحد نفسا إلّا وسعها ، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحدا إلّا بما يستطيعه ، وذلك أيضا وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلّا بما يستطاع : في العامة والخاصة ، فقد قال في آيات ختام هذه السورة (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦].
والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شريعة الإسلام (١) ، وسيأتي
__________________
(١) ومما استدل به على وقوعه قوله تعالى : وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦] نقله آلوسي في تفسيره ، (١٢ / ٤٩) ، ط المنيرية.