(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))
استئناف بياني لأن تولّيهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتّباعه يثير سؤالا في نفس السامع : كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام ، فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة. ويجوز أن تجعلها حالا من ضمير (تَوَلَّوْا) [سورة النحل : ٨٢]. ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة (تَوَلَّوْا).
وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها. والمعنى : هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها ، ومع تحقّقهم أنها نعمة من الله ينكرونها ، أي ينكرون شكرها فإن النّعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه ؛ فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها ، فقد أطلق فعل «ينكرون» بمعنى إنكار حقّ النّعمة ، فإسناد إنكار النّعمة إليهم مجاز لغوي ، أو هو مجاز عقلي ، أي ينكرون ملابسها وهو الشكر.
و (ثُمَ) للتراخي الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل ، فهو عطف على جملة (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) ، وكأنه قيل : وينكرونها ، لأن (ثُمَ) لما كانت للعطف اقتضت التّشريك في الحكم ، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له فبقي لها معنى التّشريك وصارت المهلة مهلة رتبية لأن إنكار نعمة الله أمر غريب.
وإنكار النّعمة يستوي فيه جميع المشركين أئمّتهم ودهماؤهم ، ففريق من المشركين وهم أئمّة الكفر شأنهم التعقّل والتأمّل فإنهم عرفوا النّعمة بإقرارهم بالمنعم وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى تردّدوا وشكّوا في دين الشّرك ثم ركبوا رءوسهم وصمّموا على الشّرك. ولهذا عبّر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار.
وأما قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) فظاهر كلمة «أكثر» وكلمة (الْكافِرُونَ) أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم ، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين. فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النّظر فهم لا يشعرون بنعمة الله ، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة. فكان إشراكهم راسخا ، بخلاف عقلائهم وأهل النظر فإن لهم تردّدا في نفوسهم ولكن يحملهم على الكفر حبّ السيادة في قومهم. وقد تقدم قوله تعالى فيهم : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة العقود [١٠٣]. وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [سورة الأنعام : ٣٣].