عن نفسه ، كأنه قال : ليس بى شيء من الضلال ، كما لو قيل لك : ألك تمر ، فقلت : مالى تمرة فإن قلت : كيف وقع قوله (وَلكِنِّي رَسُولٌ) استدراكا للانتفاء عن الضلالة؟ قلت : كونه رسولا من الله مبلغا رسالاته ناصحاً ، في معنى كونه على الصراط المستقيم ، فصحّ لذلك أن يكون استدراكا للانتفاء عن الضلالة. وقرئ : أبلغكم ، بالتخفيف. فإن قلت : كيف موقع قوله (أُبَلِّغُكُمْ) (١)؟ قلت : فيه وجهان. أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفاً بيانا لكونه رسول رب العالمين. والثاني : أن يكون صفة لرسول. فإن قلت : كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت : جاز ذلك لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المخاطب وكان معناه ، كما قال :
أَنَا الَّذِى سَمَّتْنِ أُمِّى حَيْدَرَهْ (٢)
__________________
ـ حيوانا. ولو قلت : هذا ليس بحيوان ، لاستلزم أن لا يكون إنسانا ، فنفى الأعم كما ترى أبلغ من نفى الأخص. والتحقيق في الجواب أن يقال : الضلالة أدنى من الضلال وأقل ، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه. وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه ، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، لا من حيث كونه أخص ، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، والله أعلم.
(١) قال محمود : «إن قلت كيف موقع قوله (أُبَلِّغُكُمْ)؟ قلت فيه وجهان ... الخ» قال أحمد : وقد أستدرك
ابن جنى قول أبى الطيب : |
|
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبى |
عدولا عن لفظ الغيبة لو كان إلى أدبه ، وهذه الآية والرجز العلوي كفيلان بتحسين ما ارتكبه أبو الطيب.
(٢) أنا الذي سمتن أمى حيدره |
|
كليث غابات كريه المنظرة |
أو فيهم بالصاع كيل السندره |
|
أضربكم ضربا يبين الفقرة |
للإمام على رضى الله عنه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر ، فقال مرحب :
قد علمت خيبر أنى مرحب |
|
شاكي السلاح بطل مجرب |
إذا الحروب أقبلت تلتهب |
فأجابه على بذلك «وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها ، لأن «حيدرة» من أسماء الأسد ، فلما حضر أبو طالب سماه علياً. وسمى الأسد «حيدرة» لشدة انحداره على من يصول عليه. والليث : اسم جامد له ، واشتقوا منه ، لا ينه إذا عامله معاملة الليث. والغابة : بيته الذي يغيب فيه. والسندرة : اسم امرأة كانت تبيع البر وتوفى الكيل ، أو مكيال كبير. وكان الظاهر أن يقول : الذي سمته أمه ليطابق الضمير مرجعه وهو الموصول في الغيبة. ولكن أتى بضمير التكلم ذهابا إلى المعنى. وحسنه تقدم ضمير المتكلم ، أى أنا الشجاع الذي ظهرت على أمارة الشجاعة من صغرى ، فسمتني أمى باسم الأسد ، ولا أكذبها في ظنها ، وأنا كليث غابات منظرته كريهة لعبوسى في وجه عدوى ، ثم قال : أوفى الأعداء ، أى أعطيهم عطاء وافياً. وكيل السندرة : نصب به على المفعول المطلق ، أو بمقدر : أى أكيل لهم مثل كيل تلك المرأة في الوفاء ، أو أعطيهم بالصاع الصغير كيل المكيال الكبير. ويروى : أو فيهم بالسيف. وهذا من باب الاستعارة التمثيلية التهكمية ، شبه هيئة إيصاله الطعان إلى الأعداء بكثرة في مقابلة مكروه يفرط منهم. بهيئة إيصال البر بالكيل في مقابلة ثمنه ، وإن كان البر محبوبا والطعن مكروها ، والتفت مفسراً ذلك بقوله أضربكم ضرباً يبين ، أى يفصل الفقرة : جمعها فقار ، وفقرات. وهي عظام الظهر ، وقد علمت خيبر ، أى أهلها. وشاكي السلاح. حاده وتلمه. يجوز أنه نعت مرحب. ويجوز أنه خبر بعد خبر. وبطل مجرب : خبر بعد خبر لا غير. واستعار الالتهاب لاشتداد الحروب على طريق التصريح.