(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(١٢٢)
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين ، قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر ، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل ، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي ، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أروها بالحيل والشعوذة (١) وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ، كقوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). روى أنهم ألقوا حبالا غلاظاً وخشبا طوالا ، فإذا هي أمثال الحيات ، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وأرهبوهم إرهابا شديداً ، كأنهم استدعوا رهبتهم (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في باب السحر. روى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل : جعلوا فيها الزئبق (ما يَأْفِكُونَ) ما موصولة
__________________
(١) قال محمود : «معناه أروها بالحيل والشعوذة ... الخ» قال أحمد : معتقد المعتزلة إنكار وجود السحر والشياطين والجن في خبط طويل لهم. ومعتقد أهل السنة إقرارها الظواهر على ما هي عليه ، لأن العقل لا يحيل وجود ذلك. وقد ورد السمع بوقوعه ، فوجب الإقرار بوجوده ، ولا يمنع عند أهل السنة أن يرقى الساحر في الهواء ، ويستدق فيتولج في الكوة الضيقة ، ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه ، وذلك واقع بقدرة الله تعالى عند إرشاد الساحر. هذا هو الحق والمعتقد الصدق ، وإنما أجريت هذا الفصل لأن كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره ، إلا أن هذا النص القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع ، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عما في نفسه ، فيسميه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أن الشعوذة لا تعلم في يد ابن عمر رضى الله عنه حتى بكوعها ، ولا تؤثر في سيد البشر حتى يخيل اليه أنه يأتى نساءه وهو لا يأتيهن. وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا ، فالعمدة أن كل واقع فبقدرة الله تعالى ، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدى من يشاء ، والله الموفق.