والثقلين أهمه شأن الساعة ، ويودّه أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه. أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها. أو لأن كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها (إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على غفلة منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه (١) والرجل يسقى ماشيته ، والرجل يقوّم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه (٢)» (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) كأنك عالم بها. وحقيقته : كأنك بليغ في السؤال عنها (٣) ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه ، استحكم علمه فيه ورصن (٤) وهذا التركيب معناه المبالغة. ومنه : إحفاء الشارب. واحتفاء البقل : استئصاله. وأحفى في المسألة ، إذا ألحف (٥). وحفى بفلان وتحفى به : بالغ في البرّ به. وعن مجاهد : استحفيت عنها
__________________
(١) قوله «والرجل يصلح حوضه» في البخاري : يليط حوضه. وروى «يلوط» أى يصلحه اه (ع)
(٢) أخرجه الطبري بالإسناد المذكور إلى قتادة قال ذكر لنا ـ فذكره ، وفي الصحيحين عن أبى هريرة رفعه «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ـ الحديث».
(٣) قال محمود «معناه كأنك بليغ في السؤال عنها ... الخ» قال أحمد وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز ، وهو أجل من أن يشارك فيها ، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد ، واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده ، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وسيأتى وهذا منها ، فانه لما ابتدأ الكلام بقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إلى قوله (بَغْتَةً) أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده فطري ذكره تطرية عامة ، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم ، فمن ثم قيل (يَسْئَلُونَكَ) ولم يذكر المسئول عنه وهو الساعة ، اكتفاء بما تقدم ، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله :
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال |
|
الشحم إنا قد مللناه يجل |
أى فقط ، فذكر الألف واللام خاتمة للأول من الرجزين ، ثم لما استفتح الرجز الثاني استبعد العهد بالأولى ، فطري ذكرها وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جنى على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء فهو بيت كامل وليس بنصف ، كما ذهب إليه أبو الحسن ، قال : ولو كان بيتا واحدا لم يكن عهد الأولى متباعدا ، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها. ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل ، لم يعدها أول المصراع الثاني ، لأنها بيت واحد ، فلم ير عهدها بعيدا ، وذلك قوله :
يا خليلي أربعا واستخبرا ال |
|
منزل الدارس من أهل الحلال |
مثل سحق البرد عنى بعدك ال |
|
قطر مغناه وتأويب الشمال |
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا ، فانظر هذه النكتة كيف بالغت العرب في رعايتها حتى عدت القريب بعيدا والمتقاصر مديدا ، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان في صناعتي العربية والبيان ، والله المستعان.
(٤) قوله «ورصن» أى : ثبت وتمكن اه. (ع)
(٥) قوله «إذا ألحف» أى ألح وعنف اه. (ع)