معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ، ويغير نياته ومقاصده ، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً ، وبالنسيان ذكراً ، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى. فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب (١) من أفعال القلوب فلا ، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر ، وبينه وبين الكفر إذا آمن ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً. وقيل معناه : أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله ، لا يخفى عليه شيء من ضمائره ، فكأنه بينه وبين قلبه. وقرئ : بين المر ، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء ، كالخب ، ثم نوى الوقف على لغة من يقول : مررت بعمرّ.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٥)
(فِتْنَةً) ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل : افتراق الكلمة. وقيل (فِتْنَةً) عذاباً. وقوله : (لا تُصِيبَنَ) لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة ، فإذا كان جواباً ، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً (٢) فعمهم الله بالعذاب ، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة ، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنه قيل : واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ ، ونظيره قوله :
حَتَّي إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ |
|
جَاؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ (٣) |
__________________
(١) قوله «فأما ما يثاب العبد عليه ... الخ» المسألة هنا من فروع مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية ، فعند المعتزلة أن المريد الخالق لها هو العبد ، وإذا صح تكليفه لظهور اختياره. وعند أهل السنة أن المريد الخالق لها هو الله تعالى. وإنما صح تكليف العبد لما له فيها من الكسب ، وهو اختيار بعضها على بعض بشهادة الوجدان ، خلافا للجبرية القائلين بالجبر المحض ، ومحله التوحيد.
(٢) قوله نهوا عن المنكر تعذيراً التعذير في الأمر : التقصير فيه اه صحاح. (ع)
(٣) بتنا بحسان ومعزاه يئط |
|
يلحس أذنيه وحينا يمتخط |
ما زلت أسعى فيهمو وأختبط |
|
حتى إذا جن الظلام واختلط |
جاءوا بمذق هل رأيت الذيب قط
لأحمد الرجاز. وقيل : إنه للعجاج ، يصف رجلا بالبخل. وبات بالقوم : إذا نزل بهم ليلا. والأط : صوت الجوف. والمعز ـ محركة ومسكنة ـ والمعيز ، والأمعوز ، والمعزى : خلاف الضأن من الغنم. فهو اسم جمع ، وتأنيث المعزى لغة. والاختباط : تطلب المعروف من غير اهتداء. يقول : نزلنا عند حسان ليلا ، والحال أن معزاه جائعة هزيلة ، فالأطيط كناية عن الأول ، والامتخاط كناية عن الثاني ، ويجوز أن ذلك كناية عن كثرة المعز عنده ، وليخله قراهم بالمذق بعد مدة كان يمكنه أن يذبح لهم فيها شاة ، وهذا أنسب بما بعده ، وضمير أذنيه ـ