شجاعته ورباطة جأشه (١) صلى الله عليه وسلم ، وما هي إلا من آيات النبوّة ، وقال : يا رب ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس ـ وكان صيتا : صيح بالناس ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب البقرة ، فكرّوا عنقاً واحداً (٢) وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمى الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا ، قال العباس : لكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته (بِما رَحُبَتْ) ما مصدرية ، والباء بمعنى مع ، أى مع رحبها (٣) وحقيقته ملتبسة برحبها ، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال ، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أى ملتبسا بها لم أحلها ، تعنى مع ثياب السفر. والمعنى : لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب ، فكأنها ضاقت عليكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ثم انهزمتم (سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وآمنوا (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا. وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) يعنى الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل خمسة آلاف ، وقيل ستة عشر ألفا (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر ، وسبى النساء والذراري (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) أى يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل : سى يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى ، فقال : إنّ عندي ما ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم. قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاءوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا : رضينا وسلمنا ، فقال : إنى لا أدرى لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا (٤).
__________________
(١) قوله «ورباطة جأشه» الجأش : رواع القلب عند الفزع. ورابط الجأش : من يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(٢) قوله «عنقا واحدا» ويقال هم عنق إليك أى مائلون إليك كذا في الصحاح. (ع)
(٣) قوله «مع رحبها» في الصحاح «الرحب» بالضم : السعة. (ع)
(٤) ذكره الثعلبي بغير سند وهذه القصة قد ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بطوله ، وذكرها البخاري من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان ، ورواها الطبري وغيره من رواية زهير ابن حرد ، وفيه الشعر الذي أنشده زهير.