من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي أبدا ، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى (أَنْ يُجاهِدُوا) في أن يجاهدوا ، أو كراهة أن يجاهدوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب.
(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)(٤٨)
(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) يعنى المنافقين ، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا (يَتَرَدَّدُونَ) عبارة عن التحير ، لأن التردّد ديدن المتحير ، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قرئ : عدّه ، بمعنى عدّته ، فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال :
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا (١)
من حذف تاء التأنيث ، وتعويض المضاف إليه منها. وقرئ : عدّة ، بكسر العين بغير إضافة ، وعدّه بإضافة. فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطياً معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إلىّ زيد ، ولكن أساء إلىّ (فَثَبَّطَهُمْ) فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث (وَقِيلَ اقْعُدُوا) جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل : هو قول الشيطان
__________________
ـ تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة ، فقال تعالى (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أى ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو الفتوة ، وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة ، وأسوأ أحوال المتثاقل ـ وقد دعى الناس إلى الغزاة ـ أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق نعوذ بالله من التعرض لسخطه.
(١) مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٢٣ فراجعه إن شئت اه مصححه