بالوسوسة. وقيل : هو قولهم لأنفسهم. وقيل : هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود. فإن قلت : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح (١)؟ قلت : خروجهم كان مفسدة ، لقوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. فإن قلت : فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت : لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى ، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه ، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها ، فمن ثم أتاه العتاب. ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى ، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة ، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة. ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق ، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت : ما معنى قوله (مَعَ الْقاعِدِينَ)؟ (٢) قلت : هو ذمّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ). (إِلَّا خَبالاً) ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيراً إلا خبالا ، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلا ، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالا. والخبال ، الفساد والشرّ (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) ولسعوا بينكم بالتضريب (٣) والنمائم وإفساد ذات البين. يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى : ولأوضع ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم ، لأنّ الراكب أسرع من
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت كيف جاز أن يوقع الله في نفوسهم كراهة الخروج للغزو ... الخ» قال أحمد : وهذا الفصل من كلامه مبنى على قاعدتين فاسدتين : إيجاب مراعاة المصالح على الله تعالى ، والتحسين والتقبيح. وقد تكرر بطلان ذلك فاحذره. واعلم أن معتقد أهل السنة أن الله تعالى ألقى كراهة الخروج في قلوبهم ، لأنه أراد شقاوتهم ، وانضاف إلى ذلك إرادة راحة المخلصين من مرافقتهم ، إذ الأمر ليس شرطا في نفوذ المشيئة ، والله الموفق.
(٢) عاد كلامه. قال : «فان قلت فما معنى قوله مع القاعدين ... الخ» قال أحمد : وهذا من تنبيهاته الحسنة ، ونزيده بسطاً فنقول : لو قيل اقعدوا مقتصراً عليه ، لم يفد سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : كونوا مع القاعدين ، ولا تحصل هذه الفائدة مع إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون : لقد بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله : لأجعلنك من المسجونين ، ولم يقل : لأجعلنك مسجونا ، لمثل هذه النكتة من المبالغة
(٣) قوله «بالتضريب» أى بالإغراء. (ع)