وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب ، لوجوب التفقه على الكافة ، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة (فَلَوْ لا نَفَرَ) فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة ، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّداء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم (١) إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شر ذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم ، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً). (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً. ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثا ـ بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد ـ استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحى والتفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله (لِيَتَفَقَّهُوا) الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف ، النافرة من بينهم ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)
(يَلُونَكُمْ) يقربون منكم ، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم (٢) ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم غزا الشأم. وقيل : هم قريظة والنضير وفدك
__________________
(١) قوله «وانقلاب حماليق أحدهم» الحماليق : هي ما يسوده الكحل من باطن الجفن. وقيل : ما غطته الأجفان من بياض المقلة. اه من الصحاح. (ع)
(٢) قال محمود : «القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ... الخ» قال أحمد : يتعين القتال على أحد فريقين : إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه ، ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا. وإما من عينهم الامام لذلك وإن بعدت بهم الدار. وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره ، فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.