لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بنى إسرائيل في البحر كما قال :
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّىَّ فِى الْبَابِ فَيْتَقُ (١)
(فَأَتْبَعَهُمْ) فلحقهم. يقال : تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن : وعدوّا (٢). وقرئ : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان ، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلا من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط ، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)
(آلْآنَ) أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق (٣) وأيست من نفسك. قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعنى حين أوشك أن يغرق. وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه. والذي يحكى أنه حين قال (آمَنَتْ) أخذ جبريل من حال البحر (٤) فدسه في فيه ، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه. وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين (٥) لله وملائكته : وفيه جهالتان ، إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر
__________________
(١) ولا بد من جار يجيز سبيلها |
|
كما جوز السكى في الباب فيتق |
للأعشى يصف مفازة الغزل فيها المحلق عن بنى عكاظ كما يأتى قريباً. يقول : ولا بد لمريد قطعها من جار : أى قريب منها يعين المسافر على سلوك سبيلها. وجازه يجوزه : سلكه. وأجازه يجيزه : أسلكه. وكذا جوزه يجوزه بالتشديد فيهما. والسكى : المسمار ، نسبة السك ، وهو تضبيب الباب وتسميره. والفيتق : النجار ، لأنه يفتق الخشب بالمسمار. ويروى : كما سلك السكى ، أى : لا يعد من معين ، ينفذه فيها كما أنفذ النجار المسمار في الباب. وعبر بالماضي ليدل على أن المشبه به معهود للسامع.
(٢) قوله : «وقرأ الحسن وعدوا» في الصحاح : عدا عدوا وعدوا وعداء اه. وقد مر في قوله تعالى (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) (ع)
(٣) قال محمود : «معناه أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك حين أدركك الغرق ... الخ» قال أحمد : ولقد أنكر منكراً ، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم ، والله الموفق.
(٤) قوله «من حال البحر فدسه» أى طينه الأسود. أفاده الصحاح. وفي الحديث «قال جبريل يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه» كذا في الخازن. (ع)
(٥) قوله «الباهتين لله» في الصحاح «بهته» إذا قال عليه ما لم يفعله. (ع)