لأن الرضا بالكفر كفر (١) (مِنَ الْمُفْسِدِينَ) من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) وروى أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه (نُنَجِّيكَ) بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ ننحيك ، بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال ، أى : في الحال التي لا روح فيك ، وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير. أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب :
__________________
(١) قوله «والذي يحكى» ... إلى قوله «لأن الرضا بالكفر» هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله. فان الحديث صحيح الزيادات ، وقد أخرجه الترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان والحاكم وإسحاق والبزار وأبو داود والطيالسي كلهم من رواية شعبة عن عدى بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن جبريل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله» لفظ الترمذي والباقين نحوه ، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق وعبد بن حميد والبزار والطبراني من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس ، بلفظ «لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل : يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ الطين من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ، وله طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحمائى في مسنده عن أبى خالد الأحمر عن عمرو بن يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم : وذكر فرعون «فلقد رأيتنى وأنا لأكبر فمه بالحمأة مخافة أن تدركه الرحمة ، وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب في السادس والخمسين وابن مردويه من طريق عتية بن سعيد عن كثير بن زاذان عن أبى حازم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل «لو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن يقول ربى الله ، فتدركه رحمة الله» وعن ابن عمر رضى الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال لي جبريل : يا محمد ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال : ما علمت لكم من إله غيرى. وإذ نادى فقال : أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت أحشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية محمد بن سليمان بن أبى ضمرة عن عبد الله بن أبى قيس عنه ، قلت : وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري ، فالحديث توجيه وجيه ، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري ، وذلك أن فرعون كان كافراً كفر عناد ، ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل ، وكيف توجه منفرداً وأظهر أنه مخلص ، فأجرى له النيل ، ثم تمادى على طغيانه وكفره فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا فيستمر على غيه وطغيانه فدس في فمه الطين ، ليمنعه التكلم بما يقتضى ذلك ، هذا وجه الحديث. ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد وأيضاً فايمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صدقا بقلبه لا يقبل لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب في الآية بقوله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) وفيه إشارة في قوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا).