ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون ـ لقود المعنى (١) إلى إضماره ـ الإضمار في قوله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) معناه فضرب فانفلق. ومعنى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) ويزيدون الاستخفاء (٢) حين يستغشون ثيابهم أيضاً ، كراهة لاستماع كلام الله تعالى ، كقول نوح عليه السلام (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) ثم قال (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعنى. أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء ، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده. روى أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث ، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته ، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل : نزلت في المنافقين. وقرئ : تثنونى صدورهم ، واثنونى «افعوعل» من الثني ، كاحلولى من الحلاوة ، وهو بناء مبالغة ، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنونى. وقرئ تثنونّ وأصله تثنونن «تفعوعل» من الثن (٣) وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد : مطاوعة صدورهم للثنى ، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ : تثنئن ، من اثنأن «أفعال» منه ، ثم همز كما قيل : ابيأضت ، وأدهأمت وقرئ : تثنوى ، بوزن ترعوى.
(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)
فإن قلت : كيف قال (عَلَى اللهِ رِزْقُها) بلفظ الوجوب (٤) وإنما هو تفضل؟ قلت : هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم ، رجع التفضل واجباً كنذور العباد. والمستقرّ : مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار ، من صلب ، أو رحم ،
__________________
(١) قوله «لقود المعنى» أى لتأدية المعنى. (ع)
(٢) قوله «ويزيدون الاستخفاء» الظاهر أن هذا هو الخبر عن قوله : ومعنى ألا حين الخ ، كما قال أولا ، يعنى ويريدون. (ع)
(٣) قوله «من الثن» في الصحاح «الثن» بالكسر : يبس الحشيش. (ع)
(٤) قال محمود «إن قلت كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب ... الخ» قال أحمد : كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة ، فذلك كله فضل ولا واجب على الله تعالى ، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على أن الله عز وجل لما وعدهم فضله ـ ووعده خبر ، وخبره صدق ـ وجب وقوع الموعود : أى يستحيل في العقل أن لا يقع ، للزوم الخلف في خبر الصادق ، فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف ، وبينهما هذا الفرق المذكور. هذه قاعدة أهل الحق. وقد مر الكلام عليها عند قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) ، والله الموفق.