بطر (فَخُورٌ) على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر (إِلَّا الَّذِينَ) آمنوا ، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا ، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا.
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٢)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم مالا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أى لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) بأن تتلوه عليهم (أَنْ يَقُولُوا) مخافة أن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أى هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه ، ثم قال (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أى ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحى إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه ، وعليك بتبليغ الوحى بقلب فسيح وصدر منشرح ، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت : لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت : ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومثله قولك : زيد سيد وجواد ، تريد السيادة والجواد الثابتين المستقرّين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراآت ، وقول السمهري العكلي :
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللّئِيمُ فَسَامِنٌ |
|
بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا (١) |
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٣)
__________________
(١) العكلي. والشحوب تغير اللون. وأنشده أبو زيد شاهدا على أن الشحوب في لغة بنى كلاب الهزال ، وهو أنسب بالمقابلة لقوله بمنزلة مجدبة صفتها أنها. أما اللئيم الذي همه بطنه ، فهو سامن فيها لكثرة أكله. وأما كرام الناس فهم متغيرون فيها مهازيل ، لأنهم يطعمون ولا يطعمون. و «فاعل» من سمن شاذ ، وقياسه «فعيل».