فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق ، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) يعنى في زعمكم ودعواكم ، تجهيلا لهم. فإن قلت : ما بال ساقتى قصة (١) عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت. قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد ، وذلك قوله (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) ، (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب ، كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين ، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم ، كاللابد ، (٢) يعنى أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا (٣) (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين متردّدين. البعد : بمعنى البعد وهو الهلاك ، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله (كَما بَعِدَتْ)؟ وقرأ السلمى : بعدت ، بضم العين ، والمعنى في البناءين واحد ، وهو نقيض القرب ، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد ، وقراءة السلمى جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص ، كما يقال : ذهب فلان ومضى ، في معنى الموت. وقيل : معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)
__________________
ـ والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح ، وهذا منه ، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر ، استغناء عنها بذكر عاقبتهم ، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة ، وهي قوله تعالى (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ، وكذلك قوله في سورة الأنعام (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين ، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير ، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك ، كقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) واستغنى عن ذكر مقابلتها ، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز ، وضم بعضها إلى بعض ، والله الموفق للصواب.
(١) قوله «ساقتى قصة» في الصحاح : ساقة الجيش مؤخره اه. ومثله ساقة القصة هنا. (ع)
(٢) قوله «كاللابد» أى المتلبد اللاصق بالأرض ، أفاده الصحاح. (ع)
(٣) قوله «بحيث هو قعصا» في الصحاح : يقال مات فلان قعصا ، إذا أصابته ضربة فمات مكانه. (ع)