ومنه : ذهبت بعض أصابعه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم ، فهذا هو الرأى.
(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١٢)
(ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) قرئ بإظهار النونين ، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و : تيمنا : بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى : لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة (١) وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه (يَرْتَعْ) نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة : الخصب والسعة. وقرئ : نرتع ، من ارتعى يرتعى. وقرئ : يرتع ويلعب ، بالياء ، ويرتع ، من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بكسر العين ، ويلعب ، بالرفع على الابتداء. فإن قلت : كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت : كان لعبهم الاستباق والانتضال ، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو ، بدليل قوله (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ)(١٣)
(لَيَحْزُنُنِي) اللام لام الابتداء ، كقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين ، أحدهما : أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه ، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه (٢) برعيهم ولعبهم ، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل : رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره ، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة ، وفي أمثالهم : «البلاء موكل بالمنطق». وقرئ (الذِّئْبُ) بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل : اشتقاقه من «تذاءبت الريح» إذا أتت من كل جهة.
__________________
(١) قوله «ما يدل على خلاف النصيحة والمقة» أى المحبة. وقد ومقه يمقه ، بالكسر فيهما : أى أحبه ، فهو وامق ، كذا في الصحاح. (ع)
(٢) قال محمود : «اعتذر لهم بأمرين : أحدهما حزنه لمفارقته ، والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه ... الخ» قال أحمد : وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه ، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل ، فأمر سهل ، فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه ، والله أعلم.