ومن دبر ، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى : من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل ، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبى إسحاق أنه قرأ : من قبل ومن دبر بالفتح ، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا (١) بسكون العين. فإن قلت : كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان»؟ قلت : لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ، ونحوه كقولك : إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل ، لمن يمتن عليك بإحسانه ، تريد : إن تمتن علىَّ أمتنَّ عليك (فَلَمَّا رَأَى) يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها (قالَ إِنَّهُ) إن قولك (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) (٢) أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف (مِنْ كَيْدِكُنَ) الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال ، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة (٣) ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البواتق (٤) وعن بعض العلماء : أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان ، لأنّ الله تعالى يقول (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) وقال للنساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). (يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر واكتمه ولا تحدّث به (وَاسْتَغْفِرِي) أنت (لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال : خطئ ، إذا أذنب متعمداً ، وإنما قال (مِنَ الْخاطِئِينَ) بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث ، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروى أنه كان قليل الغيرة.
__________________
ـ لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة ، فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة ، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب ، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير ، فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم. وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها ، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه ، والله أعلم.
(١) قوله «وقرئا» أى : قبل ودبر ، وقوله «بسكون العين» : أى الباء. (ع)
(٢) قال محمود : «الضمير راجع إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ... الخ» قال أحمد : وفيما قاله هذا العالم نظر ، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكي. وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز ، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له ، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه ، وأيضا فان كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى ، فكان ضعيفا بالنسبة إليه. ألا ترى أول الآية (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) وأيضاً فان الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله وشواهد الشرع قائمة على ذلك ، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيد هن أعظم من كيده ، والله أعلم.
(٣) قوله «نيقة» اسم للتأنق في الأمر. أفاده الصحاح. (ع)
(٤) قوله «مع غيرهن من البوائق» أى الدواهي. أفاده الصحاح. (ع)