قولهم : جلست من عن يمينه ، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى (١) في قوله «غدت من عليه» منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى : تنزيه الله تعالى من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله (ما هذا بَشَراً) نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه (٢) ، لما عليه محاسن الصور ، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم ، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما ، وما ركز ذلك فيها إلا لأنّ الحقيقة كذلك ، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين ، ولا أجمع للخير من الملائكة ، إلا ما عليه الفئة الخاسئة (٣) المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك ، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق ، وجحودهم للعلوم الضرورية ، ومكابرتهم في كل باب ، وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية (٤) وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ومن قرأ على سليقته من بنى تميم ، قرأ «بشر» بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ : ما هذا بشرى ، أى ما هو بعبد مملوك لئيم (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) تقول هذا بشرى ، أى حاصل بشرى ، بمعنى : هذا مشرى. وتقول : هذا لك بشرى أم بكرى؟ والقراءة هي الأولى ، لموافقتها المصحف ، ومطابقة بشر لملك (قالَتْ فَذلِكُنَ) ولم تقل فهذا وهو حاضر (٥) ، رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، وربئاً بحاله واستبعاداً
__________________
(١) قوله «على أصله وعلى في قوله» عطفه يحتاج إلى تكلف ، أى : وإلى قوله غدت من عليه بعد مأتم ظمؤها كيف ترك على في قوله. ويمكن أن التقدير : ألا ترى إلى قولهم الخ وعلى في قوله أى : وألا ترى على ... الخ. (ع)
(٢) قال محمود : «نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه ... الخ» قال أحمد : تقدم القول في مسألة التفضيل شافياً ، والزمخشري لا يدعه التعصب للمعتقد الفاسد أن يحمله على مثل هذه المشافهات ، يرمى بها أهل الحق فينسب إليهم الإجبار والخسار والمكابرة في الضروريات وجحد الحقائق تعكيساً ، وهذا كله هم برآء منه ، وحسبه من المقابلة بذلك خطؤه في اعتقاد أن تفضيل الملك عند قائله ليس ضروريا ولا عقلياً نظريا ، ولكن سمعياً ، وقد قنع في الاستدلال على هذه العقيدة بالضرورة التي ادعى أنها مركوزة في الطباع ، ثم حكم بأن كل مركوز في الطباع حق ، وخصوصاً والكلام في طباع النساء القائلات : ما هذا بشرا. وإذا كان كل مركوز في الطباع حقاً ، فما ركز فيها حب الشهوات وإيثار العاجلة وجميع أمهات. الذنوب مركوز في الطباع ، أفيكون ذلك حقاً إلا عند ناظر بعين الهوى ، أعشى في سبيل الهدى ، والله ولى التوفيق.
(٣) قوله «إلا ما عليه الفئة الخاسئة» يريد أهل السنة ، وقد أساء في تعصبه للمعتزلة فعفا الله عنه. (ع)
(٤) قوله «ليس هي اللغة القدمى الحجازية» بمعنى القديمة ، لكن لم يذكرها في الصحاح. (ع)
(٥) قال محمود : «لم لم تقل فهذا وهو حاضر ... الخ» قال أحمد : وبهذا أجبت عما أورده من السؤال في قوله تعالى أول البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ) لما جعل الاشارة إلى الحروف المذكورة فقال : إن قلت كيف أشار إليها وهي قريبة كما يشار إلى البعيد ، وأجاب هو بأن كل متقض بعيد ، وأجبت أنا بأن الاشارة بذلك إلى بعيد منزلة هذا الكتاب بالنسبة إلى كتب الله تعالى.