واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً ، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩)
(فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) نبت كل صنف من أصناف النامي ، يعنى أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة ، كما قال (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ). (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) من النبات (خَضِراً) شيئاً غضا أخضر. يقال أخضر وخضر ، كأعور وعور ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة (نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) وهو السنبل. و (قِنْوانٌ) رفع بالابتداء. و (مِنَ النَّخْلِ) خبره. و (مِنْ طَلْعِها) بدل منه ، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه ، تقديره : ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ : يخرج منه حب متراكب ، كان (قِنْوانٌ) عنده معطوفا على حب. والقنوان : جمع قنو ، ونظيره : صنو وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها ، على أنه اسم جمع كركب ، لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير (دانِيَةٌ) سهلة المجتنى
__________________
ـ الناظر ولا يتجاوزها ، فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ، ومقادير سيرها وتقلبها ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم ، إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أبشع القبيلين جهلا ، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا ، ويفقهون هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم ، وليس من فقه بضم القاف ، لأن تلك درجة عالية. ومعناه : صار فقيها. قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن فقه أنزل من علم. وفي حديث سلمان أنه قال ـ وقد سألته امرأة جاءته ـ : فقهت ، أى فهمت ، كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل فلان لا يفقه شيئا ، كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا ، وكان معنى قولك : لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك : لا يعلم ، فغايته نفى حصول العلم له. وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات ، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفا. وقولنا في أدراج الكلام أنه نفى العلم عن أحد الفريقين ونفى الفقه عن الآخر ، يعنى بطريق التعريض ، حيث خص العلم بالآيات المفصلة والتفقه فيها بقوم ، فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم ولا فقه ، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول ، فالنظر في الحسن غير مملول.