جاعل الليل ، أى وجعل الشمس والقمر حسباناً. أو يعطفان على محل الليل. فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية ، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضىّ ، ولا تقول : زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت : ما هو في معنى المضىّ ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة ، وكذلك فالق الحب ، وفالق الإصباح ، كما تقول : الله قادر عالم ، فلا تقصد زماناً دون زمان ، والجر عطف على لفظ الليل ، والرفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والشمس والقمر مجعولان حسباناً ، أو محسوبان حسباناً. ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً : جعلهما على حسبان ، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان ـ بالضم ـ : مصدر حسب ، كما أنّ الحسبان ـ بالكسر ـ مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران (ذلِكَ) إشارة إلى جعلهما حسبانا ، أى ذلك التسيير بالحساب المعلوم (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي قهرهما وسخرهما (الْعَلِيمِ) بتدبيرهما وتدويرهما.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٩٧)
(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في ظلمات الليل بالبر والبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما ، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)(٩٨)
من فتح قاف المستقر ، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً. ومن كسرها ، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى : فلكم مستقرّ في الرحم. ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع. فإن قلت : لم قيل (يَعْلَمُونَ) مع ذكر النجوم (١) و (يَفْقَهُونَ) مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت كان إنشاء الإنس من نفس
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت لم قيل مع ذكر النجوم يعلمون ... الخ» قال أحمد : لا يتحقق هذا التفاوت ولا سبيل إلى الحقيقة ، وما هذا الجواب إلا صناعى. والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار ، فعدل إلى فاصلة مخالقة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة. ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه ، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته ، وكانت الآية المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الالهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقلباتهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة ، فانه نظر لا يعدو نفس ـ