تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها |
|
تفرّى ليل عن بياض نهار (١) |
قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد فالق ظلمة الإصباح ، وهي الغبش في آخر الليل ، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني : أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا : انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق. وقال الطائي :
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه |
|
وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب (٢) |
وقرئ : فالق الإصباح ، وجاعل الليل سكناً ، بالنصب على المدح. وقرأ النخعي : فلق الإصباح وجعل الليل. والسكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحاً إليه ، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار : سكن ، لأنه يستأنس بها. ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه (٣). ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه من قوله لتسكنوا فيه (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) قرئا بالحركات الثلاث ، فالنصب على إضمار فعل دل عليه
__________________
(١) كأن بقايا ما عفا من حبابها |
|
تفاريق شيب في سواد عذار |
تردت به ثم انفرى عن أديمها |
|
تفرى ليل عن بياض نهار |
لأبى نواس يصف الخمرة. يقول : كأن بقايا الذي هلك وذهب من فقاقعها شيب أبيض متفرق في عذار أسود ، لأن كلا منهما أبيض منتشر فيما يخالف لونه ، ولا يلزم من ذلك أنها سوداء كما يدل عليه ما بعده ، ثم قال : تردت ، أى استترت بالحباب ، فالتردى : استعارة التستر ، ثم انفرى : انشق وزال عن أديمها أى وجهها كتفرى الليل وانشقاق ظلامه عن بياض النهار ، والجامع استتار كل بغيرها ، ثم ظهوره بتفرق ذلك الغير فهو مركب. ولا يلزم من ذلك أن الحباب أسود كالليل ، والخمرة بيضاء كالنهار ، وانظر كيف خيل أنه في الأول أبيض وفي الثاني أسود وهي بالعكس. وهذا من العجب الداعي للطرب. وفيه أنه يرى في الأول أبيض معجبا ، ثم تعرض عنه النفس وتريد الخمرة ، فيتخيل أنه مظلم ، ثم ينكشف وتظهر هي بيضاء ترهقها صفرة ، كالسماء وقت الاسفار.
(٢) هذى مخايل برق خلفه مطر |
|
جود وروى زناد خلفه لهب |
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه |
|
وأول الغيث قطر ثم ينسكب |
لأبى تمام. وقيل للبحترى. و «مخايل» أضواء تتخيلها ، أو تخيل إلينا المطر بعدها. والجود ـ في الأصل ـ جمع جائد ، كصحب وصاحب ، وهو الكثير النافع. والورى : قدح الزند ، والزناد جمعه ، ككلب وكلاب ، وقد يكون مفرداً ككتاب. يقول : إن أوائل الأمور تبدو قليلة ثم تكثر ، فينبغي الحرص من أول الأمر قبل بلوغه غايته فيكثر الضرر ويعسر درؤه ، أو المعنى أنه ينبغي التأنى إلى بلوغ المراد ، فالكلام كله من باب التمثيل. وروى
وكاذب العمر يبدو قبل صادقه
وروى بعد هذا البيت :
ومثل ذلك وجد العاشقين هوى |
|
بالمزح يبدو وبالادمان ينتهب |
ونسبا لابن الرومي ، أى الوجد في أوله هوى وفي آخره نار ، والإدمان : الادامة.
(٣) قوله «وجمامه» أى راحته من التعب. وفي الصحاح «الجمام» بالفتح ـ : الراحة. (ع)