في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، (ذلِكُمُ اللهُ) أى ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.
(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٩٦)
(الْإِصْباحِ) مصدر سمى به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:
أفنى رباحا وبنى رباح |
|
تناسخ الإمساء والإصباح (١) |
بالكسر والفتح مصدرين ، وجمع مساء وصبح. فإن قلت : فما معنى فلق الصبح ، والظلمة (٢) هي التي تنفلق عن الصبح ، كما قال :
__________________
ـ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) وقوله (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) عطف أحد القسمين على الآخر كثيراً دليل على أنهما توأمان مقرونان ، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى فالق الحب والنوى ، فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يقال : كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله (فالِقُ الْحَبِ) و (فالِقُ الْإِصْباحِ) و (جَعَلَ اللَّيْلَ) و (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده ، وهو قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع ، وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي. وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فعدل عن الماضي المطابق لقوله (أَنْزَلَ) لهذا المعنى. ومنه ما في قوله :
إنى قد لقيت الغول تسعى |
|
بسيب كالصحيفة صحصحان |
فآخذه فأضربه فخرت |
|
صريعا اليدين وللجران |
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذعن السامع. ومنه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) فعدل عن مسبحات وإن كان مطابقا لمحشورة بهذا السبب والله أعلم ، ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما تكون العناية به أقوى ، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه ، وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ، ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي ناشئ عنه ، فكان الأول جديراً بالتصدير والتأكيد في النفس ، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر على حسب ترتيبهما في الواقع ، وسهل عطف الاسم على الفعل ، وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع «فكل واحد منهما يقدر بالآخر ، فلا جناح في عطفه عليه. والله أعلم.
(١) «رباح» أبو حى من ير نوع ، ثم صار اسما للحي. وروى بالتحتية بدل الموحدة. والإمساء والإصباح : يرويان بكسر الهمزة على أنهما مصدران ، وبفتحهما جمع مساء وصباح. وظلام الليل ينسخ نور النهار ويزيله وبالعكس. وإسناد الافناء إلى التناسخ مجاز عقلى ، من باب الاسناد الزمان ، أو هو على اعتقاد الجاهلية فيكون حقيقة عندهم.
(٢) عاد كلامه. قال : «فان قلت ما معنى فلق الصبح والظلمة وهي التي تنفلق ... الخ»؟ قال أحمد : وقيل الخالق والفالق بمعنى ، فيكون المراد خالق الإصباح. والأظهر ما فسره عليه المصنف ، والله أعلم.