أخذ الجثة كلها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أى استقرار. يقال : قرّ الشيء قراراً ، كقولك : ثبت ثباتا ، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لجلج (١). وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ، ولا في السماء مصعداً ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة.
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢٧)
(بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت بالحجة (٢) والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم ، لم يتلعثموا ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربى الله ، ودينى الإسلام ، ونبيي محمد ، فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» (٣) (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم ، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء ، وهم في الآخرة أضل وأذل (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) أى ما توجبه الحكمة ، لأن مشيئة الله تابعة
__________________
(١) قوله «من قولهم الباطل لجلج» في الصحاح : الحق أبلج ، والباطل لجلج ، أى : يردد من غير أن ينفذ. (ع)
(٢) قوله «القول الثابت الذي ثبت بالحجة» لما فسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد والخبيثة بكلمة الشرك ، فالمتجه تفسير القول الثابت بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وإضلال الظالمين بابقائهم على كلمة الشرك ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وأما التمسك بالحجة وتقليد الشيوخ فبعيد عن السياق. وفيه رد على أهل السنة المكتفين بالتقليد في تحقق الايمان. (ع)
(٣) هذا طرف من حديث له طويل أخرجه أبو داود وأبو عوانة والحاكم وأحمد وابن راهويه وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية سعد بن عبيدة عند البخاري مرفوعا في قوله (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال : نزلت في عذاب القبر. يقال له : من ربك ومن نبيك؟ فيقول : ربى الله. ونبى محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك قوله تعالى (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.