عليها ، ولكنه لا ينزلها الا على موجب الحكمة (١). أو إنما الآيات عند الله لا عندي. فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها (وَما يُشْعِرُكُمْ) وما يدريكم (أَنَّها) أن الآية التي تقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها. فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق على به من أنهم لا يؤمنون به. ألا ترى إلى قوله (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقيل : «أنها» بمعنى «لعلها» من قول العرب : ائت السوق أنك تشترى لحماً. وقال امرؤ القيس :
عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا |
|
نبكي الديار كما بكى ابن خذام (٢) |
وتقويها قراءة أبىّ : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم
__________________
(١) قال محمود : «يعنى أن الله تعالى قادر على أن ينزل الآيات ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة ... الخ» قال أحمد : ومحز النظر في الآية يتضح بمثال ، فنقول : إذا قال لك القائل «أكرم فلانا فانه يكافئك» وكنت أنت تعلم منه عدم المكافأة ، فإذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت : وما يدريك أنى إذا أكرمته يكافئنى؟ فأنكرت عليه إثباته المكافأة وأنت تعلم نفيها ، فان انعكس الأمر فقال لك : «لا تكرمه فانه لا يكافئك» وكنت تعلم منه المكافأة فأنكرت على المشير بحرمانه قلت : وما يدريك أنه لا يكافئنى؟ تريد : وأنا أعلم منه المكافأة ، فكان مقتضى الإنكار على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المفترحة أن يقال : وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ، كما تقول في المثال منكراً على من أثبت المكافأة وأنت تعلم خلافها ، وما يدريكم أنه يكافئنى؟ بإسقاط «لا» وإن أثبتها انعكس المعنى ، إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى ، فلما جاءت الآية تفهم ببادئ الرأى أن الله تعالى علم الايمان منهم وأنكر على المؤمنين نفيهم له والواقع على خلاف ذلك ، اختلف العلماء ، فحمل بعضهم «لا» على الزيادة ، وبعضهم أول «أن» بلعل ، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف. وقد تفتح «أن» بعد القسم فقال التقدير : والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها من غير حذف ولا تأويل فقال قوله السالف ، ونحن نوضح اطراده في المثال المذكور ليتضح بوجهيه في الآية ، فنقول : إذا حرمت زيداً لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة ، تلك معه حالتان : حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه ، وحالة نعذره في عدم العلم بما أحطت به علماً ، فان أنكرت عليه قلت : وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم عليه بأنه لا يكافئ قلت : وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعنى ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته وانت لم تخبر أمره خبرى ، فكذلك الآية ، إنما ورد فيها الكلام قامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى وهو عدم إيمان هؤلاء ، فاستقام دخول «لا» وتعين وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار باقامة الأعذار. والله الموفق للصواب.
(٢) لامرئ القيس. والعوج : عطف رأس البعير بالزمام. والمحيل : الذي حال وتغير عن صفة الجدة إلى صفة البلى ، أو الذي أصابه المحل والاقفار. هذا وفي الصحاح : أحال الشيء إذا أتى عليه الحول. ومنه الطلل المحيل ، فهو اسم فاعل وهو الوجيه ، ولأننا : بفتح اللام والهمزة ، بمعنى لعلنا. قال في التسهيل : في لعل عشر لغات ، وعد منها أن المفتوحة ، ولأن. وابن خذام بمعجمتين أول من بكى الديار من شعراء العرب ، وكان طبيبا حاذقا يضرب به المثل في الطب.