الكفر. وقرئ (فُتِنُوا) على البناء للفاعل ، أى : بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمى وأشباهه (مِنْ بَعْدِها) من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر (يَوْمَ تَأْتِي) منصوب برحيم. أو بإضمار اذكر. فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) ، (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ونحو ذلك.
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ)(١١٣)
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أى جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها (مُطْمَئِنَّةً) لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف (رَغَداً) واسعاً. والأنعم : جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع. أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث. نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : «إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا (١)». فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه (٢)؟ قلت :
__________________
(١) لم أجده هكذا.
(٢) قال محمود : «إن قلت الاذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحة إيقاع الاذاقة على اللباس ... الخ»؟ قال أحمد : وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر ، وقد نظر إليهما جميعاً في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى ، وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها ، ثم جاء ملاحظا الشراء المستعار قوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء ، ثم جاء ملاحظا الحقيقة الأصلية المستعار لها قوله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فانه مجرد عن الاستعارة ، إذ لو قيل أولئك الذين ضلوا وما كانوا مهتدين ، لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه ، كترشيح المجاز في بابه. ومنه :