أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع (١). وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس : ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما ، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه هاهنا. ونحوه قول كثير :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكاً |
|
غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ (٢) |
استعارة الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف (٣) والنوال ، لا صفة الرداء ، نظر إلى المستعار له. والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار ، كقوله :
يُنَازِعُنِى رِدَائِى عَبْدُ عَمْرٍو |
|
رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْر |
لِىَ الشّطْرُ الَّذِى مَلَكَتْ يَمِينِى |
|
وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ (٤) |
__________________
ـ إذا الشيطان قصع في قفاها |
|
تنفقناه بالحبل التؤام |
فجعل الشيطان في قفاها قاصعاً ثم نافقاً ، ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره ، والشوط في هذا الفن البديع فطين ، والله الموفق.
(١) قوله «بما يدرك من الطعم المر والبشع» عبارة غيره : طعم المر والبشع ، ولعله المر البشع بدون واو. (ع) (٢) لكثير. والغمر : الكثير. وشبه العطاء بالرداء ، لأنه يصون عرض صاحبه أو يستر فقر السائل ، فاستعاره له على سبيل التصريحية وإضافة الغمر إليه تجريد ، لأنه يلائم المشبه. هذا وقد يقال الغمر ، يطلق على الماء الذي يغمر قامة المنغمس فيه ، فيجوز أنه يشبه العطاء من حيث صونه عرض صاحبه بالرداء ، فيكون استعارة مصرحة ، وتكون إضافة الغمر إليه من إضافة المشبه به للمشبه ، يجامع عموم كل ونفعه ، والقرينة على كل ذلك قوله : إذا تبسم. شارعا في الضحك : غلقت لضحكته رقاب المال : يقال : غلق الرجل إذا ضجر وغضب ، وغلق الرهن إذا ملكه المرتهن ولم يقدر صاحبه على فكه ، وكانت تلك عادتهم. فالمعنى : إذا ضحك غضبت الأموال لعلها أنها ستؤخذ ويملكها غيره ، أو ثبتت في أيدى السائلين وملكوها. ورقاب المال : مجاز مرسل ، أى أعيانه.
(٣) قوله «ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف» في الصحاح الغمر الماء الكثير. وفيه «الاعتجار» لف العمامة على الرأس ، وفيه «الضافي» السابغ. (ع)
(٤) استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما ، كالشىء يتجاذبه اثنان. واستعار الرداء السيف بجامع حفظ كل لصاحبه وعدم الاستغناء عنه. والاعتجار ترشيح ، ومعناه : التعمم أو التلفع ، فهو ملائم الرداء. ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو : فاعل. ورويدك : اسم فعل ، بمعنى أمهل ، والكاف حرف خطاب ، قاله الجوهري. وبالنظر لأصله فهو مصدر ، والكاف مضاف إليه ، وفيه التفات. وبكر : ـ